كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه الجمل مؤكدات ومبينات لما تقدمها ولهذا فقد العاطف. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه» وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لتقومن الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه وبين ذلك» ثم كرر {يسألونك} للتأكيد ولما نيط به من زيادة قوله: {كأنك حفي عنها} فكان السؤال الأول عن وقت قيام الساعة، والسؤال الثاني عن كنه ثقل الساعة شدتها ومهابتها ولهذا خص باسم الله في قوله: {قل إنما علمها عند الله} لأن أعظم أسماء الله مهابة هو الله، وأما الرب فيدل على التربية والرحمة دون الهيبة والعزة، وفي الحفي وجوه: فقيل إنه البار اللطيف و{عن} بمعنى الباء أي كأنك بارّ بهم لطيف العشرة معهم وهذا قول الحسن وقتادة والسدي، والضمير عائد إلى قريش التي ادعت القرابة وجعلوها وسيلة إلى أن يخبرهم بالساعة. والمعنى أنك لا تكون حفيًا بهم ما داموا على كفرهم ولو أخبرت بوقتها وأمرت بالإخبار عنها لكنت مبلغه القريب والبعيد من غير تخصيص كسائر ما أوحي إليك. وعلى هذا القول جاز أن يكون {عنها} متعلقًا ب {يسألونك} أي يسألونك عنها كأنك حفي أي عالم بها فحذف قوله بها لطول الكلام أو لأنه معلوم. وقيل: {عنها} يتعلق بمحذوف. وحفي فعيل من حفي فلان بالمسألة أي استقصى، والمعنى كأنك بليغ في السؤال عنها لأن من أكثر السؤال علم. وهذا التركيب يفيد المبالغة ومنه إحفاء الشارب، وأحفى في المسألة إذا ألحف. وقيل: المراد كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه وتؤثره يعني أنك تكره السؤال عنها لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أنه مختص بذلك العلم أو لا يعلمون أن القيامة حق وإنما يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا، أو لا يعلمون السبب الذي لأجله خفيت معرفة وقتها المعين عن الخلق. ثم أمر نبيه بإظهار ذلة العبودية حتى لا ينسب إليه نقص ولا يعاب من قبل عدم العلم بالغيب فقال: {قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله} وفيه أن قدرته قاصرة وعلمه قليل، وكل من كان عبدًا كان كذلك، والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليس إلا لله تعالى. واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة خلق الأعمال قالوا: الإيمان نفع والكفر ضر فوجب أن لا يحصلا إلا بمشيئة الله تعالى.
وأجابت المعتزلة بأن المراد لا أملك لنفسي من النفع والضر إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه. وظاهر الآية وإن كان عامًا إلا أنها مخصوصة بصورة النزول. قال الكلبي: إن أهل مكة قالوا: يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري فتربح، وبالأرض التي يريد أن تجدب فترتحل عنها إلى ما قد أخصب، فأنزل الله هذه الآية، فالمراد بالخير في قوله: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير} هو جلب منافع الدنيا وخيراتها من الخصب والأرباح والأكساب. وقيل: المراد ما يتصل بأمر الدين يعني لو كنت أعلم بالغيب لكنت أعلم أن الدعوة إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في لك فكنت أشتغل بدعوة هذا دون ذاك. وقال بعضهم: لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق جاء في الطريق ريح نفرت ناقته منها فأخبر صلى الله عليه وسلم بموت رفاعة وكان فيه غيظ للمنافقين وقال: «انظروا أين ناقتي». فقال عبد الله بن أبيّ لقومه: ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته. فقال صلى الله عليه وآله: «إن ناسًا من المنافقين قالوا كيت وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة» فوجدوها على ما قال فنزلت. أما قوله: {وما مسني السوء} فمعناه لكان حالي على خلاف ما هي عليه من المغلوبية في بعض الحروب والخسران في بعض التجارات والأخطاء في بعض التدبير {إن أنا} إلا عبد مرسل للنذارة والبشارة وما من شأني أن أعلم الغيب. وقوله: {لقوم يؤمنون} إما أن يتعلق بالبشير وحده ويكون المتعلق بالنذير وهو للكافرين محذوفًا للعلم به كقوله: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] أو يتعلق بالوصفين جميعًا إلا أن المؤمنين لما كانوا هم المنتفعين به خصوا بالذكر كقوله: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] واعلم أن أكثر ما جاء في القرآن من لفظي الضر والنفع معًا جاءا بتقديم لفظ الضر على النفع وهو الأصل لأن العابد يعبد معبوده خوفًا من عقابه أولًا ثم طمعًا في ثوابه ثانيًا يؤيده قوله: {يدعون ربهم خوفًا وطمعًا} [السجدة: 16] وحيثما تقدم النفع على الضر فذلك لسابقة لفظ تضمن معنى نفع كما في هذه السورة تقدم لفظ الهداية على الضلال في قوله: {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل} [الكهف: 17] وتقدم الخير على السوء في قوله: {لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} وفي الرعد تقدم ذكر الركوع في قوله: {طوعًا وكرهًا} [آل عمران: 83] والطوع نفع. وفي الفرقان تقدم قوله: {هذا عذاب فرات} [الفرقان: 53] وهو نفع وفي سبأ تقدم البسط في قوله: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} [الرعد: 26] وقس على هذا.
ثم رجع إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك فقال: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة} والمروي عن ابن عباس أنها نفس آدم وقد تقدم مثل ذلك في أول سورة النساء. قال مجاهد: كان لا يعيش لآدم وامرأته ولد فقال لهما الشيطان: إذا ولد لكما ولد فسمياه عبد الحرث وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث وذلك قوله: {فلما آتاهما صالحًا} ولدًا سويًا {جعلا} يعني آدم وحوّاء {له شركاء} والمراد تسميته بعبد الحرث وهذا تمام القصة وقد زيفها النقاد بوجوه منها: أنه تعالى قال: {فتعالى الله عما يشركون} بلفظ الجمع لا التثنية ومنها قوله: {أيشركون ما لا يخلق شيئًا} إلى آخر الآيات وفي ذلك تصريح بأن المراد الأصنام ولو كان المراد إبليس لكان أيشركون ما لا يخلق شيئًا وهو يخلق؟. ومنها أن آدم عليه السلام كان عالمًا بجميع الأسماء فكيف ضاقت عليه الأسماء، أم كيف لم يعرف أن اسم إبليس كان حارثًا، أم كيف لم يتنبه لغدر إبليس بعد أن جرى عليه منه ما جرى؟ ومنها أنه أراد بذلك اسم علم أو اسم صفة والأوّل لا يستلزم محذورًا إلا أن أسماء الأعلام لا تفيد في المسميات فائدة فلا يلزم الإشراك، والثاني يوجب الكفر الصريح ولا قائل بإمكان نسبته إلى آدم فعند ذلك ذكر العلماء في تأويله وجوهًا: أحدها أن هذا مثل فكأنه تعالى يقول هو الذي خلقكم أي كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنسانًا يساويه في الإنسانية يسكن أي تلك النفس، فذكر بعد ما أنث حملًا على المعنى ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويطمئن إليها فكان التذكير أحسن طباقًا للمعنى {فلما تغشاها} أي جامعها لأنه إذا علاها صار كالغاشية لها {حملت حملًا خفيفًا} قالوا: يريد النطفة. والحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس الجرة، وبكسر الحاء ما حمل على الظهر أو على الدابة {فمرت به} أي استمرت وقضت على ذلك الحمل من غير إذلاق. وقيل: فقامت وقعدت به من غير ما ثقل. وقيل:
المراد بالخفة أنها لم تلق ما تلقاه بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى {فلما أثقلت} كان وقت ثقل حملها ولادتها {دعوا} أي الزوج والزوجة {الله ربهما} ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يدعى ويلتجأ إليه فقالا {لئن آتيتنا صالحًا} ولدًا قد صلح بدنه أو ولد ذكرًا لأن الذكورة من الصلاح والجودة {لنكونن من الشاكرين} لنعمائك {فلما آتاهما صالحًا} كما طلب {جعلا له شركاء} ومن قرأ {شركًا} فعلى حذف المضاف أي ذوي شرك وهم الشركاء أيضًا. أو المراد أحدث لله إشراكًا في الولد لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع، وتارة إلى الكواكب، وتارة إلى الأوثان والأصنام، وثانيها أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم آل قصيّ والمعنى: هو الذي خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجة عربية قرشية، فلما أتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد الدار.
والضمير في {يشركون} لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك، وثالثها سلمنا أن الآية وردت في قصة آدم إلا أنه لا يجوز أن يكون قوله: {جعلا} واردًا بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد؟. ثم قال: {فتعالى الله عما يشركون} أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الإنعام ثم يقول لذلك المنعم إن ذلك المنعم عليه يقصد إيذاءك وإيصال الشر إليك فيقول ذلك المنعم: فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة إنه بريء من ذلك. فغرضه من قوله إنه يقابلني بالشر النفي والتبعيد. أو نقول: لم لا يجوز أن يكون قوله: {جعلا له} على حذف المضاف أي جعلا أولادهما له شريكًا؟ وكذا فيما {آتاهما} أي آتى أولادهما عبر عنهم بلفظ التثنية مرة لكونهم صنفين أو نوعين ذكرًا وأنثى وبلفظ الجمع أخرى وهو قوله: {فتعالى الله عما يشركون} سلمنا أن الضمير في {جعلا} وفي {آتاهما} لآدم وحواء إلا أنهما كانا عزمًا أن يجعلا وقفًا على خدمة الله وطاعته ثم بدا لهما فكانا ينتفعان به في مصالح الدنيا، فأريد بالشرك هذا القدر. وعلى هذا فإنما قال تعالى: {عما يشركون} لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. أو نقول: إنما سمياه عبد الحرث اعتقادًا منهما إنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه، وقد يسمى المنعم عليه عبد المنعم ومنه قول بعض العلماء أنا عبد من علمني حرفًا. فلما حصل الإشراك في لفظ العبد صارا معاتبين بذلك والله تعالى أعلم. ثم أقام الحجة على أن الأوثان لا تصلح للإلهية فقال: {أيشركون ما لا يخلق شيئًا وهم يخلقون} اعتبر اللفظ أوّلًا فوحد والمعنى ثانيًا، وإنما جمع بالواو والنون بناء على معتقدهم أنهم عقلاء. واحتجت الأشاعرة بها في مسألة خلق الأعمال فإنها تدل على أن غير الله لا يخلق ثم بيّن أن المعبود يجب أن يكون قادرًا على إيصال النفع ودفع الضر وهذه الأصنام ليست كذلك فقال: {ولا يستطيعون لهم نصرًا} وهو المعونة على العدة {ولا أنفسهم ينصرون} ولا يدفعون عن أنفسهم مكروها فإن من أراد كسرهم لم يقدروا على دفعه. والحاصل أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تقتص ممن عصاها بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم ويحامون عليهم.
ثم ذكر أنها كما لا تنفع ولا تضر فكذلك لا علم لها بشيء من الأشياء وأنها لا يصح منها إذا دعيت إلى الخير والصلاح الاتباع ولا ينفصل حال من يخاطبهم ممن يسكت عنهم فقال: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم} ويجوز أن يكون المراد وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبتكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله بدليل قوله بعد {فادعوهم فليستجيبوا لكم} ثم قوّى هذا الكلام بقوله: {سواء عليكم أدعوتموهم أو أنتم صامتون} وإعرابه شبيه بما تقدم في أول سورة البقرة في قوله: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} [البقرة: 6] وإنما عطف الاسمية على الفعلية لأن هؤلاء المشركين كانوا إذا وقعوا في مهم ومعضلة تضرعوا إلى تلك الأصنام، وإذا لم تحدث تلك الواقعة بقوا ساكتين صامتين فقيل لهم: لا فرق بين إحداثكم دعاءهم وبين أن تستمروا على صمتكم. ثم أكد بيان أنها لا تصلح للإلهية بقوله: {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} فسئل أنه كيف يحسن وصف الجمادات بأنها عباد؟ وأجيب بعد تسليم اختصاص العباد بالعقلاء بأن ذلك ورد على معتقدهم أنها عقلاء. وفيه أيضًا نوع من الاستهزاء أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم فلم قبلتموها آلهة لكم وأربابًا؟. ثم بين عدم التفاضل بقوله: {فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين} في أنها آلهة ولام الأمر للتعجيز فإنه إذا ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للعبودية وأنها والعباد سواء بل هم أخس وأدون بدليل قوله: {ألهم أرجل يمشون بها} الآية. وذلك أن كل ما هو من شأنه أن يكون له هذه الأعضاء والآلات فإذا كان فيها قوي محركة ومدركة كان هو أفضل ممن خلت أعضاؤه عن هذه القوى فكيف يليق بالأفضل الأكرم الأشرف خدمة المفضول الخسيس الدنيء؟ وإنما قلنا كل ما من شأنه أن يكون له هذه الأعضاء لأن من جل عن ثبوت هذه الأعضاء والجوارح له فعدم هذه الأشياء بالنسبة إليه فضيلة وكمال، فإن القادر القاهر من غير افتقار إلى آلة وعدّة كان أشرف ممن يفتقر في أفعاله إلى الآلات فضلًا عمن لا فعل لآلته، فلا يرد اعتراض بعض أغمار المشبهة أن الله تعالى لو لم تكن له هذه الأعضاء لكان عدمها دليلًا على عدم إلهيته.